{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)}فيه مسألتان: الأولى: لما نهى تعالى في هذه السورة عن آثام هي كبائر، وعد على اجتنابها التخفيف من الصغائر، ودل هذا على أن في الذنوب كبائر وصغائر. وعلى هذا جماعة أهل التأويل وجماعة الفقهاء، وأن اللمسة والنظرة تكفر باجتناب الكبائر قطعا بوعده الصدق وقوله الحق، لا أنه يجب عليه ذلك. ونظير الكلام في هذا ما تقدم بيانه في قبول التوبة في قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ}، فالله تعالى يغفر الصغائر باجتناب الكبائر، لكن بضميمة أخرى إلى الاجتناب وهي إقامة الفرائض. روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر».وروى أبو حاتم البستي إلى صحيح مسنده عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلس على المنبر ثم قال: «والذي نفسي بيده» ثلاث مرات، ثم سكت فأكب كل رجل منا يبكي حزينا ليمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال: «ما من عبد يؤدي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له ثمانية أبواب من الجنة يوم القيامة حتى إنها لتصفق» ثم تلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ}. فقد تعاضد الكتاب وصحيح السنة بتكفير الصغائر قطعا كالنظر وشبهه. وبينت السنة أن المراد ب {تَجْتَنِبُوا} ليس كل الاجتناب لجميع الكبائر. والله أعلم. وأما الأصوليون فقالوا: لا يجب على القطع تكفير الصغائر باجتناب الكبائر، وإنما محمل ذلك على غلبة الظن وقوه الرجاء والمشيئة ثابتة. ودل على ذلك أنه لو قطعنا لمجتنب الكبائر وممتثل الفرائض تكفير صغائره قطعا لكانت له في حكم المباح الذي يقطع بألا تباعة فيه، وذلك نقض لعرى الشريعة. ولا صغيرة عندنا. قال القشيري عبد الرحيم: والصحيح أنها كبائر ولكن بعضهما أعظم وقعا من بعض، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي.قلت: وأيضا فإن من نظر إلى نفس المخالفة كما قال بعضهم:- لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر من عصيت- كانت الذنوب بهذه النسبة كلها كبائر، وعلى هذا النحو يخرج كلام القاضي أبي بكر بن الطيب والأستاذ أبى إسحاق الاسفراييني وأبي المعالي وأبي نصر عبد الرحيم القشيري وغيرهم، قالوا: وإنما يقال لبعضها صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها، كما يقال الزنى صغيرة بإضافته إلى الكفر، والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنى، ولا ذنب عندنا يغفر باجتناب ذنب آخر، بل كل ذلك كبيرة ومرتكبه في المشيئة غير الكفر، لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} واحتجوا بقراءة من قرأ {إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه} على التوحيد، وكبير الإثم الشرك. قالوا: وعلى الجمع فالمراد أجناس الكفر. والآية التي قيدت الحكم فترد إليها هذه المطلقات كلها قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ}. واحتجوا بما رواه مسلم وغيره عن أبي أمامة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة» فقال له رجل: يا رسول الله، وإن كان شيئا يسيرا؟ قال: «وإن كان قضيبا من أراك». فقد جاء الوعيد الشديد على اليسير كما جاء على الكثير.وقال ابن عباس: الكبيرة كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب.وقال ابن مسعود: الكبائر ما نهى الله عنه في هذه السورة إلى ثلاث وثلاثين آية، وتصديقه قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ}.وقال طاوس: قيل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب.وقال سعيد بن جبير: قال رجل لابن عباس الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار وروي عن ابن مسعود أنه قال:الكبائر أربعة: اليأس من روج الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، والشرك بالله، دل عليها القرآن. وروي عن ابن عمر: هي تسع: قتل النفس، واكل الربا، واكل مال اليتيم، ورمي المحصنة، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفرار من الزحف، والسحر، والإلحاد في البيت الحرام. ومن الكبائر عند العلماء: القمار والسرقة وشرب الخمر وسب السلف الصالح وعدول الحكام عن الحق واتباع الهوى واليمين الفاجرة والقنوط من رحمة الله وسب الإنسان أبويه- بأن يسب رجلا فيسب ذلك الرجل أبويه- والسعي في الأرض فسادا-، إلى غير ذلك مما يكثر تعداده حسب ما جاء بيانها في القرآن، وفي أحاديث خرجها الأئمة، وقد ذكر مسلم في كتاب الايمان منها جملة وافرة. وقد أختلف الناس في تعدادها وحصرها لاختلاف الآثار فيها، والذي أقول: إنه قد جاءت فيها أحاديث كثيرة صحاح وحسان لم يقصد بها الحصر، ولكن بعضها أكبر من بعض بالنسبة إلى ما يكثر ضرره، فالشرك أكبر ذلك كله، وهو الذي لا يغفر لنص الله تعالى على ذلك، وبعده اليأس من رحمة الله، لأن فيه تكذيب القرآن، إذ يقول وقوله الحق: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} وهو يقول: لا يغفر له، فقد حجر واسعا. هذا إذا كان معتقدا لذلك، ولذلك قال الله تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ}. وبعده القنوط، قال الله تعالى: {ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون}. وبعده الأمن من مكر الله فيسترسل في المعاصي ويتكل على رحمة الله من غير عمل، قال الله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ}.وقال تعالى: {وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ}. وبعده القتل، لأن فيه إذهاب النفوس وإعدام الوجود، واللواط فيه قطع النسل، والزنى فيه اختلاط الأنساب بالمياه والخمر فيه ذهاب العقل الذي هو مناط التكليف، وترك الصلاة والأذان فيه ترك إظهار شعائر الإسلام، وشهادة الزور فيها استباحة الدماء والفروج والأموال، إلى غير ذلك مما هو بين الضرر، فكل ذنب عظم الشرع التوعد عليه بالعقاب وشدده، أو عظم ضرره في الوجود كما ذكرنا فهو كبيرة وما عداه صغيرة. فهذا يربط لك هذا الباب ويضبطه، والله أعلم.الثانية: قوله تعالى: {وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً} قرأ أبو عمرو وأكثر الكوفيين {مُدْخَلًا} بضم الميم، فيحتمل أن يكون مصدرا، أي إدخالا، والمفعول محذوف أي وندخلكم الجنة إدخالا. ويحتمل أن يكون بمعنى المكان فيكون مفعولا. وقرأ أهل المدينة بفتح الميم، فيجوز أن يكون مصدر دخل وهو منصوب بإضمار فعل، التقدير وندخلكم فتدخلون مدخلا، ودل الكلام عليه. ويجوز أن يكون اسم مكان فينتصب على أنه مفعول به، أي وندخلكم مكانا كريما وهو الجنة.وقال أبو سعيد بن الاعرابي: سمعت أبا داود السجستاني يقول: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: المسلمون كلهم في الجنة، فقلت له: وكيف؟ قال: يقول الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً} يعني الجنة.وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي». فإذا كان الله عز وجل يغفر ما دون الكبائر والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشفع في الكبائر فأي ذنب يبقى على المسلمين.وقال علماؤنا: الكبائر عند أهل السنة تغفر لمن أقلع عنها قبل الموت حسب ما تقدم. وقد يغفر لمن مات عليها من المسلمين كما قال تعالى: {وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ} والمراد بذلك من مات على الذنوب، فلو كان المراد من تاب قبل الموت لم يكن للتفرقة بين الاشراك وغيره معنى، إذ التائب من الشرك أيضا مغفور له. وروي عن ابن مسعود أنه قال: خمس آيات من سورة النساء هي أحب الي من الدنيا جميعا، قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ} الآية، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} الآية، وقوله تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها}، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} وقال ابن عباس: ثمان آيات في سورة النساء، هن خير لهذه الامة مما طلعت عليه الشمس وغربت: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ}، {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}، {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ} الآية، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ}، {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ}، {ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ} الآية.